الثلاثاء، 24 مارس 2009

إنها أمي


" الغرفة 79 في أحد المستشفيات الكبرى بالقاهرة حيث ترقد سيدة عجوز تبدو و كأنها جثة هامدة تخرج منها أسلاك كثيرة متصلة بأجهزة إصطناعية ، العلامة الوحيدة على بقاءها على قيد الحياة كانت عيناها التي تتحرك في كل مكان في أنحاء الغرفة ، تتحرك عيناها لتنظر في وجوه أبناءها الذين التفوا حولها
- أنا آسف يا إخواني فأنا مضطر للرحيل الآن
قطع الصمت بهذه الجملة أحمد أكبر أبناءها
- ألا تنتظر حتى تطمئن على أمنا ؟!
قالها إبراهيم الابن الأوسط بمرارة شديدة
- ميعاد الطائرة اقترب
- فلتؤجل رحلتك إلي يوم آخر أو لتلغها و لتبقى معنا فنحن بحاجة إليك
تجاهل أحمد رجاء أخيه و نظراته الحزينة إليه و انشغل تماما بترتيب أوراقه داخل شنطته
- أنا آسف يا إبراهيم فأنا مرتبط بمواعيد كثيرة مستحيل تأجيلها
- فلتتركه يا إبرهيم أتريده أن يصبح مثلنا
قالها أسامة الأخ الأصغر الغاضب دائما ثم أعقبها بقوله:
- سألحق بك يا أحمد قريبا ، لقد كرهت كل هذا
خرج أحمد من الغرفة بعد إلقاءه السلام عليهم و خرج وراءه أسامة ليودعه و تركا إبراهيم كما هو واقفا بجوار أمهم ماسكا بيدها ، انسابت دمعة من عيني إبراهيم و هو يتذكر كيف هجرهم أخيهم الأكبر أحمد بعد وفاة أبيهم ، أبيهم الذي كان ملء السمع و البصر و الذي توفي فجأة و تركهم صغارا ماعدا أحمد الذي تخلى عنهم و هجرهم ليبحث عن مستقبله وحيدا و اضطرت الأم المسكينة إلي الزواج من أول من طرق الباب خوفا من المجهول و بحثا عن الأمان ، و كان هذا هو حسيب زوج الأم الضعيف الشخصية الواقع تحت سيطرة المعلم برهام و الذي أرغمه على أن يتاجر بأمي حتى يسدد ديونه للمعلم و التي لا تنتهي أبدا ، فأحيانا كانت تعمل راقصة في محل المعلم برهام و أخرى تعمل بجسدها لطلاب المتعة الحرام ، مسكينة أنت يا أمي .. كيف تحملتي كل هذا .. لقد كنت أعز النساء و أنت في كنف أبي، لقد أرغموك على البغاء و أنت الحرة العفيفة ، كيف تحملتي كل هذا العذاب ، و كيف تحملتي أن يصبح كمال ابنك الثاني المساعد الأول للمعلم برهام ، كيف تحملتي أن يتاجر ابنك بعرضك .. إنه حقير .. كمال حقير و برهام حقير و حسيب حقير و نحن .. و نحن ..
قطع أسامة ذكريات أخيه عن الماضي عندما دخل الغرفة ساخطا لاعنا كعادته:
- لن أستطيع أن أبقى بجوارها حتى تموت ، لقد سئمت كل هذا
لم يرد عليه إبراهيم و اكتفى بنظراته الحزينة إليه
- فلننزع هذه الأسلاك ، فإنها أصبحت عديمة الجدوى ، فلتمت أفضل لها
مرة أخرى اكتفى إبراهيم بنظراته
- إنك معتوه ، لقد انتهت فلتتركها و انطلق في حياتك
اشتدت قبضة الأم على قبضة ابنها و كأنها تستنجد به فنظر إبراهيم إلي أمه التي انسابت الدموع من عينيها ثم انتصب في وقفته و نظر إلي أخيه نظرة كلها تحدي و قال:
- إنها أمي
فرد عليه أسامة بغضب شديد:
- أنت معتوه
- إنها أمي
- إنها راقصة
- إنها أمي
- إنها مومس
- إنها أمي
- إنها تموت
قالها و انصرف مغلقا الباب وراءه بعنف شديد ، قال إبراهيم و هو مازال ينظر ناحية الباب:
- إنها أمي.